فصل: فصل: في الفناء وأقسامه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تقريب التدمرية **


 فصل‏:‏ في ضرورة الإيمان بالقدر والشرع

لابد للإنسان من الإيمان بالقدر لأنه أحد أركان الإيمان الستة، ولأنه من تمام توحيد الربوبية، ولأن به تحقيق التوكل على الله تعالى وتفويض الأمر إليه مع القيام بالأسباب الصحيحة النافعة، ولأن به اطمئنان الإنسان في حياته حيث يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولأن به ينتفي الإعجاب بالنفس عند حصول المراد، لأنه يعلم أن حصوله بقدر الله، وأن عمله الذي حصل به مراده ليس إلا مجرد سبب يسره الله له، ولأن به يزول القلق والضجر عند فوات المراد أو حصول المكروه، لأنه يعلم أن الأمر كله لله فيرضى ويسلم‏.‏ وإلى هذين الأمرين يشير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏22-23‏]‏‏.‏

ولابد للإنسان أيضاً من الإيمان بالشرع وهو ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام من أمر الله ونهيه، وما يترتب عليهما من الجزاء ثواباً أو عقاباً، فيقوم بما يلزمه نحو الأمر والنهي، ويؤمن بما يترتب عليهما من الجزاء‏.‏

وذلك لأن الإنسان مريد فلابد له من فعل يدرك به ما يريد، ويدفع به ما لا يريد، ولابد له من ضابط يضبط تصرفه لئلا يقع فيما يضره، أو يفوته ما ينفعه من حيث لا يشعر، والشرع الإلهي الذي جاءت به الرسل هو الذي يضبط ذلك، ويصدر الحكم به، ويكون به التمييز بين النافع والضار، والصالح والفاسد، لأنه من عند الله العليم، الرحيم، الحكيم‏.‏

والعقول وإن كانت تدرك النافع والضار في الجملة، لكن تفصيل ذلك والإحاطة به إحاطة تامة إنما يكون من جهة الشرع‏.‏

ولهذا نقول‏:‏ النفع أو الضرر قد يكون معلوماً بالفطرة، وقد يكون معلوماً بالعقل، وقد يكون معلوماً بالتجارب، وقد يكون معلوماً بالشرع‏.‏ فالشرع يأتي مؤيداً لما شهدت به الفطرة والعقل والتجارب، وهذه تأتي شاهدة لما جاء به الشرع‏.‏

وفي هذا المقام اختلف الناس في الأعمال هل يعرف حسنها وقبحها بالشرع أو بالعقل‏؟‏

والتحقيق‏:‏ أن ذلك يعرف تارة بالشرع، وتارة بالعقل، وتارة بهما، لكن علم ذلك على وجه الشمول والتفصيل وعلم غايات الأعمال في الآخرة من سعادة، وشقاء ونحو ذلك لا يعلم إلا بالشرع‏.‏

 فصل

إذا تبين أنه لابد للإنسان من الإيمان بالقدر والإيمان بالشرع، فاعلم أن الناس انقسموا في ذلك إلى قسمين‏:‏

القسم الأول‏:‏ أهل الهدى والفلاح الذين آمنوا بقضاء الله وقدره على ما سبق بيانه من المراتب الأربع، وآمنوا أيضاً بشرعه فقاموا بأمره ونهيه وآمنوا بما ترتب على ذلك من جزاء، ولم يحتجوا بقدره على شرعه، أو بشرعه على قدره، ولم يجعلوا ذلك تناقضاً من الخالق، وهؤلاء هم أهل الحق الذين حققوا مقام ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ المؤمنين بمقتضى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ‏}‏ ‏[‏لأعراف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أهل الضلال والهلاك المخالفون للجماعة، وهم ثلاث فرق‏:‏ مجوسية، ومشركية، وإبليسية‏.‏

فالمجوسية هم‏:‏ القدرية الذين آمنوا بشرع الله، وكذبوا بقدره، فغلاتهم أنكروا عموم علم الله تعالى وقالوا‏:‏ إن الله تعالى لم يقدر أعمال العباد ولا علم له بها قبل وقوعها، ومقتصدوهم آمنوا بعلم الله بها قبل وقوعها، وأنكروا أن تكون واقعة بقدر الله تعالى وأن تكون مخلوقة له‏.‏

وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم‏.‏ ومذهبهم باطل بما سبق في أدلة مراتب القدر‏.‏

والمشركية هم‏:‏ الذين أقروا بقدر الله واحتجوا به على شرعه كما قال الله تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏‏.‏

والإبليسية هم‏:‏ الذين أقروا بالأمرين بالقدر وبالشرع لكن جعلوا ذلك تناقضاً من الله عز وجل، وطعنوا في حكمته تعالى، وقالوا‏:‏ كيف يأمر العباد وينهاهم، وقد قدر عليهم ما قدر قد يكون مخالفاً لما أمرهم به ونهاهم عنه‏؟‏ فهل هذا إلا التناقض المحض والتصرف المنافي للحكمة‏؟‏ وهؤلاء أتباع إبليس فقد احتج على الله عز وجل حين أمره أن يسجد لآدم فقال إبليس‏:‏ ‏{‏قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ‏}‏ ‏[‏لأعراف‏:‏ 12‏]‏‏.‏

والرد على هاتين الفرقتين معلوم من الرد على المحتجين بالقدر على معصية الله تعالى‏.‏

 فصل

وأما الشرع فهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله تعالى التي من أجلها خلق الله الجن والإنس لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذريات‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وذلك هو الإسلام الذي لا يقبل الله مـن أحد ديناً سـواه لقولـه تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏‏.‏

فالإسلام هو الاستسلام لله وحده بالطاعة فعلاً للمأمور وتركاً للمحظور في كل زمان ومكان كانت الشريعة فيه قائمة، وهذا هو الإسلام بالمعنى العام‏.‏ وعلى هذا يكون أصحاب الملل السابقة مسلمين حين كانت شرائعهم قائمة لم تنسخ كما قال الله تعالى عن نوح وهو يخاطب قومه‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 72‏]‏‏.‏

وقال عن إبراهيم‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 131-132‏]‏‏.‏

وقال عن موسى في مخاطبته قومه‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 84‏]‏‏.‏ وقال عن التوراة‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وقال عن الحواريين أتباع عيسى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 111‏]‏‏.‏

وقال عن ملكة سبأ‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وأما الإسلام بالمعنى الخاص فيختص بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 162 - 163‏]‏‏.‏ وقال في أمته‏:‏ ‏{‏هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏‏.‏

فلا إسلام بعد بعثته إلا باتباعه، لأن دينه مهيمن على الأديان كلها ظاهر عليها، وشريعته ناسخة للشرائع السابقة كلها، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏81‏]‏‏.‏

والذي جاء مصدقاً لما مع الرسل قبله هو محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وهذا يعم الظهور قدراً وشرعاً‏.‏

فمن بلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن به ويتبعه لم يكن مؤمناً ولا مسلماً بل هو كافر من أهل النار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة – يعني أمة الدعوة – يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار‏)‏‏.‏ أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه‏(1)‏‏.‏

وبهذا يعلم أن النزاع فيمن سبق من الأمم هل هم مسلمون أو غير مسلمين‏؟‏ نزاع لفظي، وذلك لأن الإسلام بالمعنى العام يتناول كل شريعة قائمة بعث الله بها نبياً فيشمل إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء ما دامت شريعته قائمة غير منسوخة بالاتفاق كما دلت على ذلك النصوص السابقة، وأما بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فإن الإسلام يختص بما جاء به، فمن لم يؤمن به ويتبعه فليس بمسلم‏.‏

ومن زعم أن مع دين محمد صلى الله عليه وسلم ديناً سواه قائماً مقبولاً عند الله تعالى من دين اليهود، أو النصارى، أو غيرهما فهو مكذب؛ لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإٌِسْلامُ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏‏.‏

وإذا كان الإسلام اتباع الشريعة القائمة؛ فإنه إذا نسخ شيء منها لم يكن المنسوخ ديناً بعد نسخه ولا اتباعه إسلاماً‏.‏

فاستقبال بيت المقدس – مثلاً – كان ديناً وإسلاماً قبل نسخه، ولم يكن ديناً ولا إسلاماً بعده‏.‏ وزيارة القبور لم تكن ديناً ولا إسلاماً حين النهي عنها، وكانت ديناً وإسلاماً بعد الأمر بها‏.‏

 فصل

مبنى الإسلام على توحيد الله عز وجل، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 108‏]‏‏.‏ ولابد في التوحيد من الجمع بين النفي والإثبات، لأن النفي وحده تعطيل، والإثبات وحده لا يمنع المشاركة، فلا توحيد إلا بنفي وإثبات‏.‏

وقد قسمه العلماء – بالتتبع والاستقراء – إلى ثلاثة أقسام‏:‏

القسم الأول‏:‏ توحيد الربوبية‏.‏

القسم الثاني‏:‏ توحيد الألوهية‏.‏

القسم الثالث‏:‏ توحيد الأسماء والصفات‏.‏

وقد جمع الله هذه الأقسام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏ ‏.‏

فأما توحيد الربوبية‏:‏ فهو إفراد لله تعالى بالخلق، والملك، والتدبير‏.‏

ومن أدلته قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 189‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَه‏}‏ ‏[‏سـبأ‏:‏ 22-23‏]‏‏.‏

وهذا قد أقر به المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 87‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل من يرزقكم من السماء والأرض أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 84-90‏]‏‏.‏

ولم يكن أحد من هؤلاء المشركين ولا غيرهم ممن يقر بالخالق يعتقد أن أحداً من الخلق شارك الله تعالى في خلق السموات والأرض أو غيرهما، ولا أن للعالم صانعين متكافئين في الصفات والأفعال، ولم ينقل أرباب المقالات الذين جمعوا ما قبل في الملل والنحل والآراء والديانات عن أحد من الناس أنه قال بذلك‏.‏

وغاية ما نقلوا قول الثنوية القائلين بالأصلين‏:‏ النور، والظلمة، وأن النور خلق الخير، والظلمة خلقت الشر، لكنهم لا يقولون بتساويهما وتكافئهما، فالنور مضيء موافق للفطرة، بخلاف الظلمة‏.‏

والنور قديم، ولهم في الظلمة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها محدثة مخلوقة للنور، فيكون النور أكمل منها‏.‏

الثاني‏:‏ أنها قديمة لكنها لا تخلق إلا الشر‏.‏

فصارت الظلمة ناقصة عن النور في مفعولاتها، كما أنها ناقصة عنه في وجودها وصفاتها‏.‏ وأما قول فرعون لقومه حين جمعهم فنادى‏:‏ ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعـات‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏‏.‏ فمكابرة لم يصدر عن عقيدة، بل كان يعتقد في قرارة نفسه أن الله هو رب السموات والأرض، ولهذا لم يكذب موسى حين قال له‏:‏ ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 102‏]‏‏.‏ واقرأ قوله تعالى عن فرعون وقومه‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وأما قول من قال من الناس‏:‏ إن بعض الحوادث مخلوقة لغير الله كالقدرية الذين يقولون إن العباد خلقوا أفعالهم، فإنهم يقرون بأن العباد مخلوقون والله تعالى هو خالقهم وخالق قدرتهم‏.‏

وكذلك أهل الفلسفة والطبع والنجوم الذين يجعلون بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور يعتقدون أن هذه الفاعلات مخلوقة حادثة‏.‏

وبهذا يتقرر أنه لم يكن أحد من الناس يدعي أن للعالم صانعين متكافئين‏.‏

 فصل

وأما توحيد الألوهية فهو‏:‏ إفراد الله تعالى بالعبادة بأن يعبد وحده ولا يعبد غيره من ملك، أو رسول، أو نبي، أو ولي، أو شجر، أو حجر، أو شمس، أو قمر، أو غير ذلك كائناً من كان‏.‏

ومن أدلته قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 163‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وهذا النوع قد أنكره المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 35-36‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ‏}‏ ‏[‏صّ‏:‏ 4-6‏]‏‏.‏

ومن أجل إنكارهم إياه قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستباح دماءهم وأموالهم وسبي نسائهم وذرياتهم بإذن الله تعالى وأمره، ولم يكن إقرارهم بتوحيد الربوبية مخرجاً لهم عن الشرك، ولا عاصماً لدمائهم وأموالهم‏.‏

وتحقيق هذا النوع أن يعبد الله وحده لا شريك له بشرعه الذي جاءت به رسله كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏‏.‏ فمن لم يعبد الله تعالى فهو مستكبر غير موحد، ومن عبده وعبد غيره فهو مشرك غير موحد، ومن عبده بما لم يشرعه فهو مبتدع ناقص التوحيد حيث جعل لله تعالى شريكاً في التشريع‏.‏

والعبادة تطلق على معنيين‏:‏

أحدهما‏:‏ التعبد، وهو فعل العابد فتكون بمعنى التذلل للمعبود حباً وتعظيماً‏.‏ وهذان – أعني الحب والتعظيم – أساس العبادة؛ فبالحب يكون طلب الوصول إلى مرضاة المعبود بفعل ما أمر به، وبالتعظيم يكون الهرب من أسباب غضبه بترك ما نهى عنه‏.‏

الثاني‏:‏ المتعبد به، فتكون اسماً جامعاً لكل ما يتعبد به لله تعالى كالطهارة، والصلاة، والصدقة، والصوم، والحج، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وغير ذلك من أنواع العبادة‏.‏

وللعبادة شرطان‏:‏

أحدهما‏:‏ الإخلاص لله عز وجل بألا يريد بها سوى وجه الله والوصول إلى دار كرامته، وهذا من تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏

الثاني‏:‏ المتابعة لرسول الله صلى الله بألا يتعبد لله تعالى بغير ما شرعه، وهذا من تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله‏.‏

فالمشرك في العبادة لا تقبل عبادته، ولا تصح لفقد الشرط الأول‏.‏ والمبتدع فيها لا تقبل ولا تصح لفقد الشرط الثاني‏.‏ وقد دل على هذين الشرطين كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فمن أدلة اشتراط الإخلاص من كتاب الله‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 2-3‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 88‏]‏‏.‏ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المتنوعة الدلالة‏.‏

ومن أدلته من السنة‏:‏ ما أخرجه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس، إنما الأعمال بالنية وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه‏)‏‏.‏ هذا أحد ألفاظ البخاري ‏(2)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قال الله تبارك وتعالى‏:‏ أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه‏)‏ ‏(3)‏‏.‏

ومن أدلة اشتراط المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله تعالى‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏85‏]‏‏.‏ وقوله في وصف النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏‏.‏ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المتنوعة الدلالة‏.‏

ومن أدلته من السنة‏:‏ ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏ ‏(4)‏‏.‏ أي مردود، وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا خطب الناس يوم الجمعة‏:‏ ‏(‏أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة‏)‏ ‏(5)‏‏.‏ وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة‏)‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود ‏(6)‏‏.‏

ولا تتحقق المتابعة إلا بموافقة العبادة للشرع في سببها، وجنسها، وقدرها، وكيفيتها، وزمانها، ومكانها‏.‏

والعبادة أنواع كثيرة‏:‏

فمنها الصلاة والذبح، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 162 - 163‏]‏‏.‏ فمن صلى لغير الله فهو مشرك، ومن ذبح لغير الله تقرباً وتعظيماً فهو مشرك‏.‏

ومنها التوكل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏‏.‏ ولهذا لما كان التوكل خاصاً به كان وحده هو الحسب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏‏.‏ فأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏لأنفال‏:‏ 64‏]‏‏.‏ فمعناه أن الله هو حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين فقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنِ اتَّبَعَكَ‏}‏ معطوف على الكاف في قوله‏:‏ ‏{‏حَسْبُكَ‏}‏ وليس معطوفاً على ‏{‏اللَّهُ‏}‏ كما ظنه بعض الغالطين، فإن هذا يفسد به المعنى إذ يكون المعنى على هذا التقدير‏:‏ أن الله والمؤمنين حسب النبي صلى الله عليه وسلم وهذا باطل، فإن مقام النبي صلى الله عليه وسلم أعلى وأقوى من مقام من اتبعه، فكيف يكون الأدنى حسباً للأعلى والأقوى‏.‏

ومنها الخشية والخوف تعبداً وتقرباً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 175‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْن‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 51‏]‏‏.‏ فجعل الرهبة له وحده كما جعل العبادة له وحده في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 56‏]‏‏.‏

ومنها التقوى تعبداً وتقرباً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 70-71‏]‏‏.‏

 فصل

وأما توحيد الأسماء والصفات فهو إفراد الله تعالى بأسمائه وصفاته وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل‏.‏

فلا يجوز نفي شيء مما سمى الله به نفسه، أو وصف به نفسه لقوله تعالى‏:‏ ‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏180‏]‏‏.‏ ولأن ذلك تعطيل يستلزم تحريف النصوص أو تكذيبها مع وصف الله تعالى بالنقائص والعيوب‏.‏

ولا يجوز تسمية الله تعالى أو وصفه بما لم يأت في الكتاب والسنة؛ لأن ذلك قول على الله تعالى بلا علم وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏36‏]‏‏.‏

ولا يجوز إثبات اسم أو صفة لله تعالى مع التمثيل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏74‏]‏‏.‏ ولأن ذلك إشراك بالله تعالى يستلزم تحريف النصوص أو تكذيبها مع تنقص الله تعالى بتمثيله بالمخلوق الناقص‏.‏

ولا يجوز إثبات اسم أو صفة لله تعالى مع التكييف؛ لأن ذلك قول على الله تعالى بلا علم، يستلزم الفوضى والتخبط في صفات الله تعالى إذ كل واحد يتخيل كيفية معينة غير ما تخيله الآخر، ولأن ذلك محاولة لإدراك مالا يمكن إدراكه بالعقول، فإنك مهما قدرت من كيفية فالله أعلى وأعظم‏.‏

وهذا النوع من التوحيد هو الذي كثر فيه الخوض بين أهل القبلة فانقسموا في النصوص الواردة فيه إلى ستة أقسام‏:‏

القسم الأول‏:‏ من أجروها على ظاهرها اللائق بالله تعالى من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، وهؤلاء هم السلف، وهذا هو الصواب المقطوع به لدلالة الكتاب، والسنة، والعقل، والإجماع السابق عليه دلالة قطعية أو ظنية‏.‏

القسم الثاني‏:‏ من أجروها على ظاهرها لكن جعلوها من جنس صفات المخلوقين‏.‏ وهؤلاء هم الممثلة، ومذهبهم باطل بالكتاب، والسنة والعقل، وإنكار السلف‏.‏

القسم الثالث‏:‏ من أجروها على خلال ظاهرها، وعينوا لها معاني بعقولهم، وحرفوا من أجلها النصوص‏.‏ وهؤلاء هم أهل التعطيل فمنهم من عطل تعطيلاً كبيراً كالجهمية والمعتزلة ونحوهم، ومنهم من عطل دون ذلك كالأشاعرة‏.‏

القسم الرابع‏:‏ من قالوا‏:‏ الله أعلم بما أراد بها، فوضوا علم معانيها إلى الله وحده‏.‏ وهؤلاء هم أهل التجهيل المفوضة، وتناقض بعضهم فقال‏:‏ الله أعلم بما أراد، لكنه لم يرد إثبات صفة خارجية له تعالى‏.‏

القسم الخامس‏:‏ من قالوا‏:‏ يجوز أن يكون المراد بهذه النصوص إثبات صفة تليق بالله تعالى وأن لا يكون المراد ذلك‏.‏ وهؤلاء كثير من الفقهاء وغيرهم‏.‏

القسم السادس‏:‏ من أعرضوا بقلوبهم وأمسكوا بألسنتهم عن هذا كله واقتصروا على قراءة النصوص ولم يقولوا فيها بشيء ‏(7)‏‏.‏

وهذه الأقسام سوى الأولى باطلة كما قد تبين في غير هذا الموضع‏.‏

 فصل

وبهذا التقرير عن أقسام التوحيد يتبين غلط عامة المتكلمين في مسمى التوحيد حيث جعلوه ثلاثة أنواع‏:‏

الأول‏:‏ أن الله واحد في ذاته لا قسيم له، أو لا جزء له، أو لا بعض له‏.‏

الثاني‏:‏ أنه واحد في صفاته لا شبيه له‏.‏

الثالث‏:‏ أنه واحد في أفعاله لا شريك له‏.‏

وبيان غلطهم في وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم لم يدخلوا فيه توحيد الألوهية، وهو أن الله تعالى واحد في ألوهيته لا شريك له فيفرد وحده بالعبادة، مع أن هذا النوع من التوحيد هو الذي من أجله خلق الجن والإنس لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذريات‏:‏ 56‏]‏‏.‏

ومن أجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وقد قام الرسل عليهم الصلاة والسلام بذلك يدعون قومهم ‏{‏أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 32‏]‏‏.‏ أي ما لكم من معبود حق غير الله، فجميع الآلهة سواه باطلة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 30‏]‏

ومن أجله قامت المعارك الكلامية والقتالية بين الرسل وأقوامهم المكذبين لهم كما قال الله تعالى عن قوم نوح‏:‏ ‏{‏قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وقال عن قوم هود‏:‏ ‏{‏قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 53-55‏]‏‏.‏ وقال في إبراهيم وقومه‏:‏ ‏{‏قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 66-69‏]‏‏.‏ وقال عن المكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏36‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ‏}‏ ‏[‏صّ‏:‏ 4-6‏]‏‏.‏ وقال في أعدائه‏:‏ ‏{‏إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

والمهم أن هذا التوحيد الذي هذا شأنه قد أغفله عامة المتكلمين الذين يتكلمون في أنواع التوحيد، وهو أحد وجوه غلطهم في مسمى التوحيد‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ قولهم‏:‏ ‏"‏إن الله واحد في ذاته لا قسيم له‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ إلخ فيه إجمال‏:‏

فإن أرادوا به أن الله تعال لا يتجزأ ولا يتفرق ولا يكون مركباً من أجزاء فهذا حق، فإن الله تعالى أحد صمد، لم يلد ولم يكن له كفواً أحد‏.‏

وإن أرادوا به مع ذلك نفي ما وصف به نفسه كعلوه واستوائه على عرشه، ووجهه، ويديه ونحو ذلك – وهذا مرادهم – فهو باطل، لأن الله تعالى قد أثبت لنفسه من صفات الكمال من هذا وغيره ما هو أهل له‏.‏ وتوحيده فيها إثباتها له على الوجه اللائق به بدون تمثيل لا أن تنفى عنه بنوع من التحريف والتعطيل‏.‏

 

 

الوجه الثالث‏:‏ قولهم‏:‏ ‏"‏واحد في صفاته لا شبيه له‏"‏ فيه إجمال‏:‏

فإن أرادوا به إثبات صفات الله تعالى على الوجه اللائق به من غير أن يماثله أحد فيما يختص به فهذا حق، وهو مذهب السلف لكن عامة المتكلمين لا يريدون ذلك‏.‏

وإن أرادوا به نفي أن يكون شيء من المخلوقات مماثلاً له من كل وجه، لهذا لغو لا حاجة إليه فهو كقول القائل‏:‏ السماء فوقنا والأرض تحتنا، لأن مماثلة الخالق للمخلوق من كل وجه معلوم الانتفاء، بل الامتناع بضرورة العقل، والسمع، وإجماع العقلاء؛ ولهذا لم يثبت أحد من الأمم أحداً مماثلاً لله تعالى من كل وجه، وغاية من شبه به شيئاً أن يشبهه به في بعض الأمور‏.‏

وإن أرادوا به نفي أن يكون بين صفات الخالق والمخلوق قدر مشترك مع تميز كل منهما بما يختص به – وهذا مرادهم – فهو باطل، لأنه قد علم بضرورة العقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما لابد من قدر مشترك بينهما مع تميز كل واحد منهما بما يختص به، كاتفاقهما في مسمى الوجود والذات والقيام بالنفس ونحو ذلك، ونفي هذا القدر تعطيل محض‏.‏

والقول بهذا المراد لا يمنع نفي ما يجب لله تعالى من صفات الكمال عند من يرى أن إثبات ذلك يستلزم التشبيه، فقد سبق أن أهل التعطيل من الجهمية والمعتزلة وغيرهم أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد وقالوا‏:‏ من أثبت لله علماً أو قدرة ونحو ذلك فهو مشبه غير موحد، وزاد عليهم غلاة الفلاسفة والقرامطة فأدخلوا فيه نفي الأسماء وقالوا‏:‏ من قال إن الله عليم قدير ونحو ذلك فهو مشبه غير موحد، وزاد عليهم غلاة الغلاة فقالوا‏:‏ إن الله لا يوصف بما يتضمن إثباتاً أو نفياً، فمن نفى عنه صفة، أو أثبت له صفة فهو مشبه غير موحد‏.‏

وقد سبق الرد على هؤلاء الطوائف في أول الرسالة ولله الحمد‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ قولهم‏:‏ ‏"‏واجد في أفعاله لا شريك له‏"‏ وهذا أشهر أنواع التوحيد عندهم، ويعنون به أن خالق العالم واحد، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب وأن هذا معنى ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ فيجعلون معناها‏:‏ لا قار على الاختراع إلا الله‏.‏

ومعلوم أن هذا خطأ من وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن هذا الذي قرروه قد أقر به المشركون الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم لم يجعلوا لله شريكاً في أفعاله كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 61‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 87‏]‏‏.‏ ومع هذا لم يكونوا موحدين بل هم مشركون بدلالة الكتاب والسنة والإجماع المعلوم بالضرورة من دين الإسلام لكونهم أنكروا توحيد الألوهية وقالوا‏:‏ ‏{‏أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ‏}‏ ‏[‏صّ‏:‏ 5‏]‏ ولهذا قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم مستبيحاً دماءهم وأموالهم، وسبى ذراريهم ونساءهم‏.‏

الثاني‏:‏ أن تفسيرهم ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ بهذا التفسير الذي ذكروه أي أنه لا قادر على الاختراع إلا الله، يقتضي أن من أقر بأن الله وحده هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا الله وعصم دمه وماله‏.‏

ومعلوم أن تفسيرها بهذا المعنى باطل مخالف لما عرفه المسلمون منها فإن تفسيرها الصحيح‏:‏ أن لا معبود حق إلا الله، هذا هو الذي يعرفه المسلمون من معناها، بل والمشركون، ألا ترى إلى قول الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 35-36‏]‏‏.‏ وكانوا لا يستكبرون عن الإقرار بقلوبهم وألسنتهم بأن الله هو الخالق وحده، ولا يدعون أن آلهتهم تخلق شيئاً، فتبين بذلك أن المشركين أعلم وأفقه بمعنى لا إله إلا الله من هؤلاء المتكلمين، وأن غاية ما يقرره هؤلاء المتكلمون من التوحيد توحيد الربوبية الذي لا يخلص الإنسان من الشرك، ولا يعصم به دمه وماله، ولا يسلم به من الخلود في النار‏.‏

وقد سلك هذا المسلك طوائف من أهل التصوف المنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد، فكان غاية ما عندهم من التوحيد أن يشهد المرء أن الله رب كل شيء، ومليكه، وخالقه لاسيما إذا غاب العارف بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية بحيث ينفى من لم يكن ويبقى من لم يزل‏.‏

ومعلوم أن هذه الغاية هي ما أقر به المشركون من التوحيد، وهي غاية لا يكون بها الرجل مسلماً، فضلاً عن أن يكون من أولياء الله تعالى وسادة خلقه‏.‏

 فصل‏:‏ في الفناء وأقسامه

الفناء لغة‏:‏ الزوال‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 26-27‏]‏‏.‏

وفي الاصطلاح ثلاثة أقسام‏:‏

الأول‏:‏ ديني شرعي وهو الفناء عن إرادة السوى، أي عن إرادة ما سوى الله عز وجل بحيث يفنى بالإخلاص لله عن الشرك، وبشريعته عن البدعة، وبطاعته عن معصيته، وبالتوكل عليه عن التعلق بغيره، وبمراد ربه عن مراد نفسه إلى غير ذلك مما يشتغل به من مرضاة الله عما سواه‏.‏

وحقيقته‏:‏ انشغال العبد بما يقربه إلى الله عز وجل عما لا يقربه إليه وإن سمي فناء في اصطلاحهم‏.‏

وهذا فناء شرعي به جاءت الرسل، ونزلت الكتب، وبه قيام الدين والدنيا، وصلاح الآخرة والدنيا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 97‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وهذا هو الذوق الإيماني الحقيقي الذي لا يعادله ذوق، ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان‏:‏ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذا أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار‏)‏ ‏(8)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً‏)‏ ‏(9)‏‏.‏

القسم الثاني‏:‏ صوفي بدعي وهو‏:‏ الفناء عن شهود السوى، أي عن شهود ما سوى الله تعالى، وذلك أنه بما ورد على قلبه من التعلق بالله عز وجل وضعفه عن تحمل هذا الوارد ومقاومته غاب عن قلبه كل ما سوى الله عز وجل، ففني بهذه الغيبوبة عن شهود ما سواه، ففني بالمعبود عن العبادة وبالمذكور عن الذكر، حتى صار لا يدري أهو في عبادة وذكر أم لا، لأنه غائب عن ذلك بالمعبود والمذكور لقوة سيطرة الوارد على قلبه‏.‏

وهذا فناء يحصل لبعض أرباب السلوك، وهو فناء ناقص من وجوه‏:‏

الأول‏:‏ أنه دليل على ضعف قلب الفاني، وأنه لم يستطع الجمع بين شهود المعبود والعبادة، والآمر والمأمور به، واعتقد أنه إذا شاهد العبادة والأمر اشتغل به عن المعبود والآمر، بل إذا ذكر العبادة والذكر كان ذلك اشتغالاً عن المعبود والمذكور‏.‏

الثاني‏:‏ أنه يصل بصاحبه إلى حال تشبه حال المجانين والسكارى، حتى إنه ليصدر عنه من الشطحات القولية والفعلية المخالفة للشرع ما يعلم هو وغيره غلطه فيها كقول بعضهم في هذه الحال‏:‏ ‏"‏سبحاني‏.‏‏.‏ سبحاني أنا الله‏.‏ ما في الجبة إلا الله، أنصب خيمتي على جهنم‏"‏ ونحو ذلك من الهذيان والشطح‏.‏

الثالث‏:‏ أن هذا الفناء لم يقع من المخلصين الكمل من عباد الله؛ فلم يحصل للرسل ولا للأنبياء ولا للصديقين والشهداء، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ليلة المعراج من آيات الله اليقينية ما لم يقع لأحد من البشر وفي هذه الحال كان صلى الله عليه وسلم على غاية من الثبات في قواه الظاهرة والباطنة كما قال الله تعالى عن قواه الظاهرة‏:‏ ‏{‏مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى‏}‏ ‏[‏لنجم‏:‏ 17‏]‏ وقال عن قواه الباطنة‏:‏ ‏{‏مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى‏}‏ ‏[‏لنجم‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وهاهم الخلفاء الراشدون أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم أفضل البشر بعد الأنبياء، وسادات أوليائهم، لم يقع لهم مثل هذا الفناء، وهاهم سائر الصحابة مع علو مقامهم وكمال أحوالهم لم يقع لهم مثل هذا الفناء‏.‏

وإنما حدث هذا في عصر التابعين، فوقع منه من بعض العباد والنساك ما وقع، فكان منهم من يصرخ، ومنهم من يصعق، ومنهم من يموت، وعرف هذا كثيراً في بعض مشايخ الصوفية‏.‏

ومن جعل هذا نهاية السالكين فقد ضل ضلالاً مبيناً، ومن جعله من لوازم السير إلى الله فقد أخطأ‏.‏

وحقيقته‏:‏ أنه من العوارض التي تعرض لبعض السالكين لقوة الوارد على قلوبهم وضعفها عن مقاومته، وعن الجمع بين شهود العبادة والمعبود ونحو ذلك‏.‏

القسم الثالث‏:‏ فناء إلحادي كفري وهو‏:‏ الفناء عن وجود السوى‏.‏ أي‏:‏ عن وجود ما سوى الله عز وجل بحيث يرى أن الخالق عين المخلوق، وأن الموجود عين الموجد، وليس ثمة رب ومربوب، وخالق ومخلوق، وعابد ومعبود، وآمر ومأمور، بل الكل شيء واحد وعين واحدة‏.‏

وهذا فناء أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود كابن عربي، والتلمساني وابن سبعين، والقونوي ونحوهم‏.‏‏.‏ وهؤلاء أكفر من النصارى من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن هؤلاء جعلوا الرب الخالق عين المربوب المخلوق، وأولئك النصارى جعلوا الرب متحداً بعبده الذي اصطفاه بعد أن كانا غير متحدين‏.‏

الثاني‏:‏ أن هؤلاء جعلوا اتحاد الرب سارياً في كل شيء في الكلاب والخنازير، والأقذار، والأوساخ، وأولئك النصارى خصوه بمن عظموه كالمسيح‏(10)‏‏.‏

وتصور هذا القول كاف في رده، إذ مقتضاه‏:‏ أن الرب والعبد شيء واحد، والآكل والمأكول شيء واحد، والناكح والمنكوح شيء واحد، والخصم والقاضي شيء واحد، والمشهود له وعليه شيء واحد، وهذا غاية ما يكون من السفه والضلال‏.‏

قال الشيخ رحمه الله‏:‏ ويذكر عن بعضهم أنه كان يأتي ابنه ويدعي أنه الله رب العالمين‏(11)‏ فقبح الله طائفة يكون إلهها الذي تعبده هو موطؤها وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية عن هذه الطائفة‏:‏

فالقوم ما صانوه عن إنس ولا ** جن ولا شجر ولا حيوان

لكنه المطعوم والملبوس والمشموم ** والمسموع بالآذان

وكذاك قالوا إنه المنكوح والمذبوح ** بل عين الغوي الزاني

إلى أن قال‏:‏

هذا هو المعبود عندهم فقل ** سبحانك اللهم ذا السبحان

يا أمة معبودها موطوؤها ** أين الإله وثغرة الطعان

يا أمة قد صار من كفرانها ** جزءاً يسيراً جملة الكفران

 فصل

ولا يتم الإسلام إلا بالبراءة مما سواه كما قال الله تعالى عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26-28‏]‏‏.‏ وبين أن لنا فيه أسوة حسنة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏‏.‏

والبراءة نوعان‏:‏

الأول‏:‏ براءة من عمل‏.‏

الثاني‏:‏ براءة من عامل‏.‏

فأما البراءة من العمل‏:‏ فتجب من كل عمل محرم سواء كان كفراً أم دونه، فيبرأ المؤمن من الشرك، والزنى، وشرب الخمر ونحو ذلك بحيث لا يرضاه ولا يقره، ولا يعمل به، لأن الرضا بذلك، أو إقراره، أو العمل به مضادة لله تعالى ورضا بما لا يرضاه‏.‏

وأما البراءة من العامل‏:‏ فإن كان عمله كفراً وجبت البراءة منه بكل حال من كل وجه لما سبق من الآيات الكريمة، ولأنه لم يتصف بما يقتضي ولاءه‏.‏

وإن كان عمله دون الكفر وجبت البراءة منه من وجه دون وجه، فيوالى بما معه من الإيمان والعمل الصالح، ويتبرأ منه بما معه من المعاصي؛ لأن الفسوق لا ينافي أصل الإيمان، فقد يكون في الإنسان خصال فسوق، وخصال طاعة، وخصال إيمان، وخصال كفر كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9-10‏]‏‏.‏ فجعل الله تعالى الطائفتين المقتتلتين إخوة للطائفة المصلحة، ووصفهم بالإيمان مع أن قتال المؤمن لأخيه من خصال الكفر لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سباب المسلم فسوق وقتاله كفر‏)‏ ‏(12)‏‏.‏ ولم تكن هذه الخصلة الكفرية منافية لأصل الإيمان ولا رافعة للأخوة الإيمانية، ولا ريب أن الأخوة الإيمانية مقتضية للمحبة والولاية، ويقوى مقتضاها بحسب قوة الإيمان والاستقامة‏.‏

وهذا الأصل – أعني أنه قد يجتمع في الإنسان خصلة إيمان، وخصلة كفر – هو ما دل عليه الكتاب والسنة وكان عليه السلف والأئمة، فتكون المحبة والولاية تابعة لما معه من خصال الإيمان، والكراهة والعداوة تابعة لما عنده من خصال الكفر‏.‏

  فصل

  المؤمن مأمور بفعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏200‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 90‏]‏‏.‏ وقال عن لقمان‏:‏ ‏{‏يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 155‏]‏‏.‏

ومأمور في جانب الطاعة بالإخلاص والاستغفار قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 2-3‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس، توبوا إلى ربكم فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة‏)‏‏.‏ أخرجهما مسلم(13)‏‏.‏

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة‏)‏ ‏(14)‏‏.‏

والجامع لهذا‏:‏ أنه لابد في الأمر من أصلين، ولابد في القدر من أصلين أيضاً‏.‏

أما الأصلان في الأمر فهما‏:‏

أصل قبل العمل أو مقارن له وهو‏:‏ الاجتهاد في الامتثال علماً وعملاً، فيجتهد في العلم بالله تعالى، وأسمائه وصفاته، وأحكامه، ثم يعمل بما يقتضيه ذلك العلم من تصديق الأخبار، والعمل بالأحكام فعلاً للمأمور، وتركاً للمحظور‏.‏

والثاني‏:‏ أصل بعد العمل وهو الاستغفار والتوبة من التفريط في المأمور، أو التعدي في المحظور، ولهذا كان من المشروع ختم الأعمال بالاستغفار كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 17‏]‏‏.‏ فقاموا الليل وختموه بالاستغفار وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً‏(15)‏ ، وآخر سورة نزلت عليه سورة النصر ‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 1-3‏]‏‏.‏ فكان بعد نزولها يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده‏:‏ ‏(‏سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي‏)‏ ‏(16)‏‏.‏ وكان نزولها إيذاناً بقرب أجله صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في مجلس أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمحضر من الصحابة فأقره عمر رضي الله عنه وقال‏:‏ ما أعلم منها إلا ما تقول‏(17)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل أن يموت‏:‏ ‏(‏سبحانك وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك‏)‏ ‏(18)‏‏.‏ فجعل الاستغفار والتوبة خاتمة العمر كما جعلتا خاتمة العمل‏.‏

وأما الأصلان في القدر فهما‏:‏

أصل قبل المقدور وهو‏:‏ الاستعانة بالله عز وجل، والاستعاذة به ودعاؤه رغبة ورهبة، فيكون معتمداً على ربه، ملتجئاً إليه في حصول المطلوب ودفع المكروه‏.‏

والثاني‏:‏ بعد المقدور وهو‏:‏ الصبر على المقدور حيث يفوت مطلوبه، أو يقع مكروهه فيوطن نفسه عليه بحيث يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الحال لا يمكن أن تتغير عما قدره والحزن كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 11‏]‏‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يهد قلبه لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه‏.‏ وقال علقمة في الآية‏:‏ هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم‏.‏

فإذا راعى الأمر والقدر على الوجه الذين ذكرنا عابداً لله تعالى مستعيناً به متوكلاً عليه من الذين أنعم الله عليهم، وقد جمع الله بين هذين الأصلين في أكثر من موضع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏‏.‏

 فصل

والناس في هذا المقام – مقام الشرع والقدر – أربعة أقسام‏:‏

الأول‏:‏ من حققوا هذه الأصول الأربعة‏:‏ أصلي الشرع، وأصلي القدر، وهم المؤمنون المتقون الذي كان عندهم من عبادة الله تعالى والاستعانة به ما تصلح به أحوالهم، فكانوا لله، وفي الله، وهؤلاء أهل القسط والعدل الذين شهدوا مقام الربوبية والألوهية، وهم أعلى الأقسام، فإن هذا مقام الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين‏.‏

الثاني‏:‏ من فاتهم التحقيق في أصلي القدر، فكان عندهم من عبادة الله تعالى والاستقامة في شرعه ما عندهم، لكن ليس عندهم قوة في الاستعانة بالله والصبر على أحكامه الكونية والشرعية، فيصيبهم عند العمل من العجز والكسل ما يمنعهم من العمل أو إكماله، ويلحقهم بعد العمل من العجب والفخر ما قد يكون سبباً لحبوط عملهم وخذلانهم، وهؤلاء أضعف ممن سبقهم وأدنى مقاماً وأقل عدلاً، لأن شهودهم مقام الإلهية غالب على شهود مقام الربوبية‏.‏

الثالث‏:‏ من فاتهم التحقيق في أصلي الشرع، فكانوا ضعفاء في الاستقامة على أمر الله تعالى ومتابعة شرعه، لكن عندهم قوة في الاستعانة بالله والتوكل عليه، ولكن قد يكون ذلك في أمور عندهم قوة في الاستعانة بالله والتوكل عليه، ولكن قد يكون ذلك في أمور لا يحبها الله تعالى ولا يرضاها، فيعان ويمكن له بقدر حاله، ويحصل له من المكاشفات والتأثيرات ما لا يحصل للقسم الذي قبله، لكن ما يحصل له من هذه الأمور يكون من نصيب العاجلة الدنيا، أما عاقبته فعاقبة سيئة، لأنه ليس من المتقين وإنما العاقبة للمتقين قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 65-66‏]‏‏.‏ فالله تعالى يعلم أن هؤلاء سيشركون بعد أن ينجيهم لكن لما كانوا في البحر كانوا مخلصين في دعائهم الله تعالى أن ينجيهم صادقين في تفويض الأمر إليه حصل مرادهم، ولما لم يكن لهم عبادة لم يستقم أمرهم وكان عاقبة أمرهم خسراً‏.‏

فالفرق بين هؤلاء وبين القسم الذين قبلهم‏:‏ أن الذين قبلهم كان لهم دين ضعيف لضعف استعانتهم بالله وتوكلهم عليه، لكنه مستمر باق إن لم يفسده صاحبه بالعجز والجزع‏.‏ وهؤلاء لهم حال وقوة لكن لا يبقى لهم إلا ما وافقوا فيه الأمر واتبعوا فيه السنة‏.‏

القسم الرابع‏:‏ من فاتهم تحقيق أصلي الشرع، وأصلي القدر، فليس عندهم عبادة لله تعالى، ولا استعانة به ولا لجوء إليه عند الشدة فهم مستكبرون عن عبادة الله مستغنون بأنفسهم عن خالقهم، وربما لجئوا في الشدائد وإدراك مطالبهم إلى الشياطين فأطاعوها فيما تريد وأعانتهم فيما يريدون، فيظن الظان أن هذا من باب الكرامات، وهو من باب الإهانات؛ لأن عاقبتهم الذل والهوان‏.‏ وهذا القسم شر الأقسام‏.‏

 فصل‏:‏ في المفاضلة والمقارنة بين أرباب البدع

نظار المتكلمين الذين يدعون التحقيق وينتسبون إلى السنة يرون التوحيد عبارة عن تحقيق توحيد الربوبية‏.‏

وطوائف من أهل التصوف الذين ينتسبون إلى التحقيق والمعرفة غاية التوحيد عندهم شهود توحيد الربوبية‏.‏ ومعلوم أن هذا هو ما أقر به المشركون، وأن الرجل لا يكون به مسلماً، فضلاً عن أن يكون ولياً من أولياء الله، أو من سادات أولياء الله تعالى‏.‏

وطائفة أخرى تقرر هذا التوحيد مع نفي الصفات، فيقعون في التقصير والتعطيل، وهذا شر من حال كثير من المشركين‏.‏

والجهم بن صفوان إمام الجهمية نفاة الصفات يغلو في القضاء والقدر ويقول بالجبر، فيوافق المشركين في قولهم لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء، لكنه يثبت الأمر والنهي فيفارق المشركين إلا أنه يقول بالإرجاء فيضعف الأمر والنهي والعقاب عنده، لأن فاعل الكبيرة عنده مؤمن كامل الإيمان غير مستحق للعقاب‏.‏

والنجارية – أتباع الحسين بن محمد النجار – والضرارية – أتباع ضرار ابن عمرو وحفص الفرد – يقربون من جهم في مسائل القدر والإيمان مع مقاربتهم له أيضاً في نفي الصفات‏.‏

والكلابية – أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب – والأشعرية المنتسبون لأبي الحسن الأشعري خير من هؤلاء في باب الصفات، فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، وأما في القدر ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة‏.‏

وأصحاب ابن كلاب كالحارث المحاسبي خير من الأشعرية في هذا وهذا‏.‏

والكرامية – أتباع محمد بن كرام – قولهم في الصفات، والقدر، والوعد، والوعيد أشبه من أكثر طوائف أهل الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة‏.‏ وأما في الإيمان فقولهم منكر لم يسبقهم إليه أحد، فإنهم جعلوا الإيمان قول اللسان فقط وإن لم يكن معه تصديق القلب، فالمنافق عندهم مؤمن ولكنه مخلد في النار‏.‏

والمعتزلة – أتباع واصل بن عطاء الذي اعتزل مجلس الحسن البصري – يقاربون قول جهم في الصفات فيقولون بنفيها، وأما في القدر والأسماء والأحكام فيخالفونه، ففي القدر يقولون‏:‏ إن العبد مستقل بعمله كامل الإرادة فيه، ليس لله في عمله تقدير ولا خلق‏.‏ ففيهم نوع من الشرك من هذا الباب‏.‏

وجهم يقول‏:‏ إن العبد مجبر على عمله، وليس له إرادة فيه‏.‏

وفي الأسماء والأحكام يقول المعتزلة‏:‏ إن فاعل الكبيرة خارج عن الإيمان غير داخل في الكفر فهو في منزلة بين منزلتين، ولكنه مخلد في النار‏.‏ ويقول جهم‏:‏ إنه مؤمن كامل الإيمان غير مستحق لدخول النار‏.‏

والمعتزلة خير من الجهمية فيما خالفوهم فيه من القدر والأسماء والأحكام، فإن إثبات الأمر والنهي، والوعد والوعيد، مع نفي القدر خير من إثبات القدر مع نفي الأمر والنهي، والوعد والوعيد، ولهذا لم يوجد في زمن الصحابة والتابعين من ينفي الأمر والنهي، والوعد والوعيد ووجد في زمنهم القدرية والخوارج الحرورية‏.‏

وإنما يظهر من البدع أولاً ما كان أخف، وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة، وكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل‏.‏

والمتصوفة الذين يشهدون الحقيقة الكونية مع إعراضهم عن الأمر والنهي شر من القدرية المعتزلة ونحوهم، لأن هؤلاء المتصوفة يشبهون المشركين الذين قالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏‏.‏ والقدرية يشبهون المجوس الذين قالوا‏:‏ إن للعالم خالقين‏.‏ والمشركون شر من المجوس‏.‏

أما الصوفية الذين عندهم شيء من تعظيم الأمر والنهي مع مشاهدة توحيد الربوبية وإقرارهم بالقدر، فهم خير من المعتزلة، لكنهم معتزلة من وجه آخر حيث جعلوا غاية التوحيد مشاهدة توحيد الربوبية، والفناء فيه فاعتزلوا بذلك جماعة المسلمين وسنتهم‏.‏ وقد يكون ما وقعوا فيه من البدعة شراً من بدعة أولئك المعتزلة‏.‏

وكل هذه الطوائف عندها من الضلال والبدع بقدر ما فارقت به جماعة المسلمين وسنتهم‏.‏ ودين الله تعالى ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وهو الصراط المستقيم طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خير الأمة التي هي خير الأمم‏.‏

وقد أمرنا الله تعالى أن نقول في صلاتنا‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6-7‏]‏‏.‏ فالمغضوب عليهم كاليهود عرفوا الحق فلم يتبعوه، والضالون كالنصارى عبدوا الله بغير علم، وكان يقال‏:‏ تعوذوا بالله من فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل‏.‏ وقال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده ثم قال‏:‏ ‏"‏هذا سبيل الله مستقيماً‏"‏ وخط عن يمينه وشماله ثم قال‏:‏ ‏"‏هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه‏"‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏ ‏)‏‏.‏ وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من قبلكم فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً‏"‏‏.‏ وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏من كان منك مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم على الهدى المستقيم‏"‏‏.‏

نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا‏.‏

والحمد لله رب العالمين‏.‏

‏[‏تم في 22/5/1410هـ‏]‏‏.‏

تمت مقابلتها على صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين وذلك يوم الأربعاء الموافق 5/6/1412هـ بمدينة الرياض والله الموفق‏.‏